اللُّجُوء .. بين السَّلامة والسُّوء ..! -1-

في قراءةٍ لمشهدِ الهجرة واللّجوء الأخير من بلادنا العربية تحديداً إلى بلاد الغرب الأوروبي وبالطَّبع الأميريكي ، يستطيع المتفاعلُ مع واقع المُهاجرين واللاجئين من ديارهم على إتّساع وطول العقد الماضي على الأقل .. أن يرى صورة العربي وأكاد أقول – شرقِ المتوسطي – الفكرية والثقافية والاجتماعية في بلاد اللجوء وقد صارت مع الوقتِ جليَّة وواضحة أكثر فأكثر ..

ما يهمُّنا هنا – كي لا يتبعثر الاهتمام إلى إتجاهات شتَّى – هذه البيئة الثقافية والاجتماعية للمُهاجرين والتي تعكسُ قناعاتِهم وقيَمَهم وطريقةَ تفكيرهم وسلوكيَّاتهم وبالتالي تعاملهم من خلالها فيما بينهم ومع الآخرين عموماً

والذي أودُّ التركيز عليه في هذه الأسطر القليلة هو ما يُختصَرُ بالسؤال التالي:

تُرى هل عَقَلَ المهاجرون عن ديارهم واللاجئونَ مِن بَعْدُ إلى بلاد الغَرب والغُربة سببَ لجوئهم العميق الحقيقي.. ؟

وهل حاولوا وقد – استقرُّوا – في بيئاتهم الجديدة تجاوزَ ذلك السبب في محاولةٍ للإفادة من ظَرفهم التاريخي والاستثنائي الجديد بما يخدِمُ حياتَهم ويَسِيْرُ بفكرهم ووعيهم وبالنتيجة بتعاملاتهم الحياتية إلى ما هو أفضل ..؟

لن نكون بالتأكيد مِثاليين إلى درجة الخيال.. إذ نظنُّ أن هجرةَ المكان ، وعشرة أعوام من الزمان ستغيّرُ عاداتٍ وتقاليدَ وطريقةَ تفكير وسلوكيَّاتِ النّاس أيَّاً كانوا ومن أيِّ مكان أتَوا

ونحن نقصد هنا بالطَّبع تغييرَ ما كان من السيِّء والفاسد إلى الحَسَنِ والصالح

لن نكون نظريين وغير واقعيين وغير عَمليين إذ نتخيَّلُ ذلك التغيير- الفجائي -!..خاصةً وأنَّنا في مَشهد – لسنا نحن بعيدين عنه على أيِّ حال – يَغلُبُ على النّاسَ فيه البساطةُ الفكرية والعامِّيَّةُ الثقافية .. وتنصهر في عامَّتهم أفكارُ الشارع وتقاليدُ المجتمع الذي تركوهُ ، وعاداتُه وطريقةُ الحياة اليومية فيهِ ، انصهارَها الشَّامل الكامل

لكنَّ الظَّنَّ الحَسَن والرَّغبة المُلِحَّة يجعلُنا نأمل هذا ونرجوه .. يَجعلُنا ننتظر من اللاجئ وقد تغيير حالُه في الزمان والمكان والظرف أن يَعىَ واقعَهُ وماضيه ومآله .. ويستوعب درسَ اللجوء بهدوء بعيداً عن فوضى الحياة الفاسدة التي كان فيها ..! ولن يسبقنا أحدٌ هنا إلى ضرورة تَجْلِيَة إيجابيات بلادنا ومجتمعنا وتوضيحها وعَدَم طَمسها ظُلماً أو جَهلاً .. فالخير الذي في بلادنا وفينا أصلاً ومَنبِتاً ومَبدأً.. ليس فقط أمراً نَمُرُّ عليه للذكرى بل هو حقيقة وهو عقيدة وهو طبيعة سليمةٌ في الأساس اجتمعتْ عليها وتراكمتْ عواملُ من داخل مجتمعاتِنا ومن خارجها .. شَوَّهَتْها .. فأدَرنا ظُهورَنا إليها على مدار سنين وسنين حتى كانَ فينا وفي مجتمعاتنا وبلادنا ما كان..! ونحنُ الآنَ هنا و دائماً .. مِمَّنْ يدعوا إلى تمَثُّل خيرٍها ورشادها وصلاحها عملاً ، وإلى تطبيقِه واقعاً وسلوكاً .. وهو ما تدعو هذه الكلمات إليهِ صراحةً .. بما تُرشِدُ إليه من تغيير الفساد والتخلُّف والتأخّر إلى الصلاح والتقدُّم والتحضُّر من باب إيماننا الحق .. وديننا الحق ، وعقيدتنا السَّليمة .. ومن خلال الاستفادة من ظروف الحياة ، ومن تجارب الشعوب والآخرين عموماً في طريق وطريقة ازدهارِهم وتطورِهم وتحضُّرِهم. ونعود إلى الفكرة الأساس ونسألُ .. لماذا نَحملُ كلَّ أخطاء الماضي معنا إلى بلاد المهجر واللُّجوء وكأننا هجرنا بلادنا بالجَسد فقط ؟؟!! لماذا ..؟ – ويَهالُكَ الواقعُ وأنت ترى ليس إلى من هَجَرَوا وطنَهم مِن سنوات قليلة خلَتْ، بل من سنين طويلة قد تصل إلى ثلاثين وأربعين وخمسن سنة..!! – وهُم على ما هُم .. وعلى ما كانوا عليه في مجتمعاتهم فسادَ خُلُقٍ وضعف إيمانٍ وتشَوُّهَ فِكرٍ وسوء تعاملٍ مع النَّاس ..؟! لماذا لم تزل المصداقية في القول والفعل موضعَ شكٍ كبير عند الكثير من المهاجرين واللاجئين .. ولماذا بقيَتْ الأحقادُ الشخصيةُ و الطّباع السيِّئة سائدةً بينهم .؟ لماذا لم تتطور طرائق تفكيرهم المُنعَكِسة على مواعيدهم – مثلاً – .. وعلى طريقة تعاملاتهم اليومية فيما بينهم ومع الآخرين ..؟

لماذا بقيتْ هذه الأمراضُ الاجتماعيةُ مُنتشرةً بينهم كما كانت في المجتمعات التي هجروها ..؟! لماذا لم تزل إرادةُ الجَهلُ وأصحابِه هي التي تصارع – كما تركناها في بلادنا – .. كلَّ ما يَمُتُّ إلى العِلْم وأهلِه والثقافة ومثقفيها والتحضّرِ والسَّاعين إليهِ.. بكلِّ ثِقَلها .. لتسود وتتحكّم بطريقة تفكير وطريقة حياة النَّاس حتى بَعْد اللُّجوء وفي بلاد الغُربة !؟

ألم يَعقِلْ مُثقفوهم ومُتعَلِّموهُم من جيل الشباب على الأقل .. أنَّ هذه الأمراض الاجتماعية والأسقام النفسية ..هي من أكبر أسباب ما صَيَّرَهم إلى ما صاروا إليه وما جعلَهم في بلاد – الأجانِب – وما أجبرهم على تَرْكِ الوطَن ..؟! ألم يَعِ اللاجئون ومثقفوهم خاصَّةً .. بعدَ كلِّ ما جرى .. أنَّ هشاشةَ مجتمعاتنا في بلادنا وضعفَ نسيجها الاجتماعي وبالتالي ضعف إنتاجهِا الحضاري ، وما أسفرَ عنهُ لاحقاً .. ما كان إلَّا لِتَرْكِنا الجهلَ يسودُ ، والرُّعَاعيَّةَ تنتشر، والفسادَ يَعُمُّ بكلِّ ما يَحمِلُه ذلك البؤسُ والتخلُّف الاجتماعي من فَقْرٍ علمي وخُلُقي واقتصادي .. وضعفٍ إيماني وتشويهٍ عقيدي ترجَمَتْهُ حركةُ حياة النَّاس – أعني كثيرَهم – غِشاً ونفاقاً ومراءاة وأحقاداً وآفاتٍ نفسيةً غلبَ فيها الحَسَدُ والكسلُ على حُب الخير وعلى النهوض إلى العمل .. وغلَبَ الطَّمع فيها على القناعة ، والكذب في كلِّ أشكاله على الصدق والأمانة .. واستحالتْ – حياة النَّاس هناك -حياةً استهلاكيةً .. أضحى المالُ فيها – وبأيِّ طريقة أتى – هدفَ الأهداف وغَرضَ الوجود ..؟!! وكذا الجَاهُ والمنصب وكذا زخارفُ الحياة وقشورها وبهارجُها ، بل قلْ صارت الدنيا – بلا وعي ولا مَبدأ ولا حِسٍ إنساني أو يقين إيماني .. مُنتَهى الغاياتِ التي ترخَصُ لها القِيَمُ والنفوسُ والكرامات ..!! وحدِّث في هذا ما شئتَ ولا حرَج

ألمْ يعِ اللاجئون هذه الحقيقة الصَّارخة الوضوح ؟ بالتأكيد لا ..!! إنَّ ذلكَ لم يُستوعَبُ عندَ أولئكَ – أعني مرةً أخرى كثيراً منهم – بَعْدُ ..! وإلَّا فلماذا تبقى هذه السَّيِّئاتُ تُسيطرُ على واقعِ حياتِهم المُعاش كما كانت في البلاد التي أفسدتَها ورحلوا عنها لفسادِها ..؟؟ وليسأل كلٌ منّاَ نفسَه .. هل كنَّا في عيشٍ رغيد وبلاد آمنة مطمئنة ومجتمعاتٍ يسودُها الازدهارُ والتَّحضُّر .. حين هَجرناها وابتعدنا عنها ..؟ هل خَرجنا منها وهاجرنا هكذا للمِزاج ..؟! أم لتغيير واقع مرير فاسد بكلِّ المقاييس ..؟ و الهجرةُ .. فيما نعرفُ.. حقٌ وفكرة صائبةٌ وعملٌ راشدٌ إن كانت في سبيل ذلك التغيير خاصةً لو أُحْسِنَ إختيار وُجهتها .. وهكذا كانت ومِن ثمَّ اللجوء عند الغالبية العظمى منّا.. لتغيير ذلكَ الواقع المَرير الفاسد الذي كُنَّا – كمجتع – من أكبر عوامل فساده .. والنُّزوحِ عنه إلى ما يُؤمَلُ فيه الخير والعيش الكريم .. فلماذا ؟ لماذا نستحضرُ مُوجباتِ العيش الفاسد والواقعِ غير المريح والزمن غير الحضاري في الحياة الجديدة في بلاد الغرب والإغتراب ..؟؟! لماذا لا نُلامسُ نورَ الهداية والرَّشاد والعلم والحُبِّ والخير والتحضّر الذي بين أيدينا بالأبصار والبصائر .. ونطمَئنُّ به – حيث كُنَّا – ونقوى ونسود ..؟! ولماذا على العكس نستسهل الجهلَ والفسادَ والشَّرَّ والكراهية والتَّخلف والرُّعاعية ونسلُكها سلوكاً يُدمِّر حياتنا ويكرِّسُ البؤسَ فينا والضَّعف ويُضطرُّنا عنها إلى الأغرابِ فارّين وراحلين .. وإلى بلادهم مهاجرين ..؟! ولماذا لا نعرف كيف نرى الخير فينا .. وفي غيرنا فنتعاملُ معه بفطرتنا السليمة .. بالوعي والحكمة وسداد الفكر وحديد البصر واتِّساع البصيرة ..؟ هذا سؤالٌ مُلِحُّ لكلِّ من هاجر وراح عن أهله و وطنه وابتعدَ .. بل هوَ في الأساس لكلِّ فرد منَّا غادرَ الوطنَ أم أقامَ فيه ..لكلِّ فِكْر فينا .. لكلِّ إحساسٍ وشعور .. لبقايا الإنسانِ فينا .. ولأشتات المؤمن في حياتنا وسلوكنا ويقيننا ..! ولكي يستيقظ هذا الإنسان فينا ويبصرُ .. حيثُ كان مقيماٍ في وطنه أم لاجئاً عنه.. فقد آنَ له ذلك ..؟

=============

03/08/2022 حسام الدين منصور

Scroll to Top