شرنا في المقال السابق إلى سوء ما يحمله كثير من المهاجرين واللاجئين معهم إلى بلاد الغرب .. وكأنهم بفعلهم هذا – غير الواعي بالطبع – لم يرحلوا ولم يرتحلوا .. وكأنَّهم بقَوا كما هم .. لكن في مكان جديد ..
ولكنَّنا أشرنا أيضاً إلى أنَّ المهاجر واللاجئ مِنَّا ليس حاملَ سوء متحرك ..! بل إنَّه يجعل من نفسه أشبه بذلك إذا حمل معه وجَلبَ في ترحاله ورحيله آفات المجتمع الذي كان فيه .. والتي هي عملياً السبب العميق والأساس لرحيله عن بلاده وتركه أهله ووطنه .. وبأنّه لو أعاد النظر بتَأن إلى وضعه الاجتماعي سواء رحلَ أم ثبتَ في أرضه .. لعَرَفَ من الإيجابيات المَخفيَّة أو المنسية لهذا المجتمع ما لو بَلوَرهُ في حياتِه ، وتمثّلهُ في واقعهِ .. لتغيرت حياتُه كفرد ولَمَضَتْ نحو الخير والإستقرار والرَّشاد .. ولتغيَّرت بالتالي طبيعةُ مجتمعه إلى ذلك الخير المنشود بكلِّ نواحيه .. بالطَّبع لو عمل أهله وجيرانُه وزملاؤه وأفراد المجتمع عموماً مثل ما عَمِلَ .. وساروا في نهج النظافة النفسية والطهارة القلبية والتعاون الأخوي الخلَّاق فيما بينهُم
أما وقد رحلَ وغادرَ موطنَه إلى بلاد اللجوء والمهجر .. فإنّه قد سهَّلَ على نفسه بمعنىً من المعاني طريقَ هذه الإستقامة المأمولة والتغيير المطلوب واختصر على نفسه جهداً يبدو- من وجهة النظر هذه – أنَّه سيكون أكبر بكثير ممَّا عليه لو استمر مقيماً في مجتمع بلاده .. لما يمتلئ به مجتمعُهُ الذي غادرَ من سلبيات مُتراكمة ، وأخطاء طافية على سطح العلاقات فيما بين النَّاس هناك .. مالم ينتبهوا لما هم فيه ويستيقظوا وينهضوا جميعاً لإصلاحه
فكيف ذلك ..؟
يكفي المُهاجرَ اللاجئَ بدايةً أنَّه تحرَّر من قيود المجتمع السلبية وعاداته السيئة ونظام خدماته الفاسدة في حركة حياته اليومية.. فَهُنا – في بلاد الغرب – لن يكون مُضطراً للكذب والرشوة والوصولية والانتهازية في عمله ومعاملاته ، أو في تعامله مع الآخرين الذين هم غارقون أساساً في وَحْل تلك الموبقات الاجتماعية المُتوارثة جيلاً بعد جيل .. ولا لممارسة ذلك الفساد باختياره أيضاً وكما تعوَّد عليه وصار ديدنَه اليومي في بلاده -للأسف – مثل السَّواد الأعظم من النَّاس هناك .. إلَّا من رحِمَ ربِّي وكان مُخلِصاً نزيهاً فِطْريَّ القلب والجوارح
هنالكَ في المجتمع الغربي .. سيجدُ فرصةً غير متوقَّعة بل إستثنائية في تصحيح تلك المثالب النفسية والجتماعية كون الغربيين الذين سيتعامل معهم واضحين – مهما استتروا – بحقيقة تعاملهم مع اللاجئ والغريب .. سواء كان التعامل شعبياً مع النّاس عامَّة .. أو رسمياً في العمل ومكاتب الهجرة ..الخ .. و كون القانون فيه – أي في المجتمع الغربي عموماً – و النظام العام والاستقلالية الشخصية سائدٌ ومهيمنٌ على طبيعة الحياة هناك .. وبما يمكن للمغترب من خلال إستيعابه لطريقة تفكير الغربيين حيث هو هاجرَ .. ولِطبيعة الحياة الجديدة هذه .. أن يَفيدَ من كُلّ ما هو صحيحٌ فيها وسليمٌ و حضاريٌ .. و من خلال تفاعُلِهِ الحذر والواعي مع هذا الجَوّ الاجتماعي -الجديد- بما يخدم غرضه الذي يَنشُده .. دون أن يَمَسَّ ذلكَ – بما نؤكَّد عليه دائماً – من قِيَمِنا وشَرْعِ ديننا وجَوهَرِه الحقِّ .. أو مِنْ أصالةِ طَبعنا ومكارم أخلاقنا وعراقَة مَنبتِنا.. بل بما يتَّفق معه غايةً وسلوكاً .. ولسنا بصدد البحث في هذه الأسطر القليلة عن طبيعة هذه العلاقة مع الغربيين بسلبياتها وإيجابياتها .. ولسنا نناقشُ الآن سلبيات مجتمعاتهم الفظيعة – المُهلكة المفتِّتة لها ولو بعد حين -..! والتي معها يتعايشون ، وفيما بينهم من خلالها يتعاملون ..!، ولا نجادلُ هنا في إيجابياتها ..التي بها على غيرهم اليومَ يتميَّزون ..! – وقد نُفصِّل في ذلك يوماً بإذن الله وتوفيقه
و لكنَّنا نَفهَمُ أنَّ المُغترِبَ قد صار في مجتمعٍ آخر وبيئة إجتماعية جديدة ، وبالطَّبع في بيئة جغرافية ومناخية مختلفة تماماً عمَّا تركه في بلاده ..
الأمر الذي يعني ابتعادَه عن الجوِّ الذي صارَ عليه اليومَ تنظيفُ نفسِه من سلبياته التي ذكرنا بعضَها آنفاً .. بالقدر الذي يجب عليه فيه أن يسعى ويعمل – بالتأكيد – على تثبيت خيره وإيجابياته .. بدءاً بالتمسك بجوهر المبدأ والعقيدة والدِّين ومكارم الأخلاق وطيِّب العادات و رفيع القِيَم .. التي باتَتْ تُرفع عند كثيرين في وطنه – وللأسف الشديد – صُوَراً وأشكالاً .. وتُجَسَّدُ قشوراً وأسماءً وصفات تفتقد إلى لُبَّها الحقيقي الصُّلب السامي الفطري السليم .. وهو الوضع الذي نكرَّر ونعيدُ أنَّه – بما نراه هنا – المسؤولُ الأساس عن فساد المجتمع الذي هَجَرَهُ اللاجئ .. ثمَّ بحرصهِ على التشبُّث وأبنائهِ وعائلته ولو تشبُّثاً مَعنوياً بالهوية الوطنية إنتماءً جذرياً لا بديل عنه مهما كانت ألوان جوازات السَّفر والإقامات التي صار يحملها وأهله أو قد يحملونها مع الوقت ..!
وبالتوازي مع ذلك يبدأ رحلة الطَّهارة القلبية والتطهير النفسي لذاته ولأسرته وبالطبع لمجتمع لجوئه الصغير في بلاد الغرب .. وذلكَ بالتَّحلّى بالصفات الكريمة والأخلاق العالية وبالتمسُّك أساساً كما نوَّهنا بِلُبِّ الدِّين الحق وتعاليمه وشريعته السَّمحة الوسطية الغرّاء .. ويبدأُ ترجمة ذلك بالصدق قولاً وعملاً .. و برفض الكذب والغش والخداع .. وبتربية الذات على حُبِّ الخير له وللأهل والأقرباء والمجتمع .. و بتمرين النفس التي أدمنت الأحقاد والكراهيةَ واعتادتْ ممارسة النميمة والغيبة والفضولَ والحسد .. على لَفْظ كلِّ ذلكَ الخُبثِ .. فهو أساساً طارئٌ على حقيقتنا وتراثنا التَّليد وهو أساساً يُعاكس ويُعادي سماحة ديننا وعظَمة شَرعِهِ ورفعة أخلاقه ونُبْل معاملات أهله وأصحابه ومتَّبعي نوره الهادي بإذن الله .. وسنَّة نبيّه الرَّحيم وفضائل سلوكه وسيرته العطرة الُمترعة بالحُبِّ والتعاون والخير والعفو والإحسان والصدق في كلِّ حركة وسكنة في الحياة ..
هنا في الغرب فرصةٌ للاجئ أكيدة إذاً للتغيير نحو هذا الأحسن .. فرصتُهُ ليبنيَ نواة مجتمعِه الصغير الجديد في تجمّعات اللاجئين والمهاجرين من بني جلدته – وهم كثيراً ما يكونون معاً هناك ـ على فضائل الأخلاق والأعمال إنطلاقاً من جوهر الإنسان الفِطري فيه ديناً وعقيدة ..
.. ولو شاعَ هذا الخير في وسط المجتمع الجديد للمهاجرين واللاجئين لَبدأت البَرَكة .. بإذن الله تسري فيما بينهم ، والتعاون على البر والتقوى يسود .. والحبُّ ينتشِرُ ويزهر طمأنينة وأماناً .. ولَوَجدَ اللاجئون في أبنائهم الأجيالَ التي بها يحلُمون بناءً وعطاءً .. ولَصارُوا قُدوةً في مجتمع الغرب وصورةً ناصعةً لجذرهم الحَي الطيِّب الذي تفرَّعوا عنه .. ولأصلهم النقي الصافي الحضاري العريق الذي أتوا من منبته وأرضه .. و ما ذاكَ إلاَّ نتيجة طبيعية للإيمان الذي يقوى في الصدور والتقوى التي تتجسَّد في العمل ..
ولو أردنا خاتمة لهذا الكلام فلن تكون إلَّا التأكيد على أنَّ ما سبقَ ذكره هو في الأساس دعوة لتغيير ما بأنفسنا عموماً .. في بلادنا ومجتمعاتنا حيث نحن مقيمون .. ثُمَّ حيثما كنّا عنها مغتربين .. إنَّها دعوةٌ لإصلاح ذواتنا ونفوسنا ومُجتمعات بلادنا أساساً التي غزاها الفساد بجراثيمه المختلفة .. وما ذلكَ الصلاح المأمولُ إلَّا بإصلاح إنساننا ونفسه .. لتغدو الفطرة السليمة فيه هي السائدة .. والحق والعدل والحبُّ والخير والتعاون على البرِّ والتقوى في مجتمعنا هي القيَم الغالبة .. وبأنوارها علينا مُشرقة .. وبالمستقبل المضيء بإذن الله مُبَشِّرة .
18/08/2022 حسام الدين منصور