أتي الأبُ من عمله .. يحملُ بعض الحاجات للبيت .. يستلقي مع هاتفه النَّقال .. ! تأتي المرأة العاملة من عملها .. تحاول إنجاز – طبخة – سريعة .. وعيونها تميلُ إلى هاتفها المركون قربها على طاولة الطَّهي قربَ أوعية الطَّعام والصُّحون ..! يآتي الأبناء من مدارسهم أوجامعاتهم أو أعمالهم .. لا تبتعدُ عيونهم لحظات عن هواتفهم المحمولة على راحات أيديهم واقفين أو جالسين أو مُستلقين .. والمستنفرة حواسِّهم الخمسِ وانتباهِهم!! ..
يجلس الجميع -إنْ حصلَ ذلكَ وجلسوا – على طاولة الطَّعام .. يأكلون في جوٍ صامت إلَّا من صوتِ الملاعق تطرق الصحون والأواني .. وعيونهم ربَّما على الهواتف أو ربَّما على التلفزيون الذي صار شِبْهَ قطعةٍ أثَريَّة في المنزل ..!
رُبعُ ساعة .. يصيرُ كلٌ في غرفَتهِ أو على سريره أو في زاويته .. يتابع – عمله المستمر .. وشغله الدائم .. و وظيفتهُ (الهاتفية الرَّسميَّة ) اليومية ..! ويملؤ شغَفَهُ الجارف – على الهاتف النقَّال أو أجهزة الحواسيب الصغيرة والكبيرة ..!
ٌيبقى الجميعُ هكذا إلى المساء .. قد يتطوَّعُ فَردٌ في ( الأُسْرَةِ ) لعملٍ ما في البيت .. ثُمَّ يعود بسرعة إلى قواعده الأساسية مع الشاشات الزرقاء أوالفضية .. حتى يقهرهُ النُّعاس فَيَنام بلا حَتى تحية مساء لأَحَدٍ من أهلِه ..
حينَ يستيقظُ في صباح اليوم التالي .. يقوم مُسرعاً إلى تهيئة نفسِهِ وحاجاتِهِ .. وقد يُسلِّم مُودِّعاً على من بقيَ في المنزل من أهله مِمَّن لم يَخرُجْ بَعْدُ ، وقد لا يُسلِّم ..! فالواجِبُ الهاتفي َالصباحي يكونُ قد بدأَ مع أول رفْع لِجَفنيهِ .. أو جفنيها .. حين تستقبلُ عيونَهُم الضوءَ .. ضَوء الشاشة الزرقاء بالطَّبع .. لا ضوء الشمس المشرق بالحياة والجمال ..!! ويركضُ كُلٌ بعدَها إلى غايتِهِ في مكان العملِ أو الدِّراسة محدودي الوقتِ
ُالحُبُّ .. الوُدُّ الأُسَرِي .. الاحترام .. التضامن الأهلي .. النقاش العائلي ..ال ال .. صاروا زوَّاراً عزيزينَ في البيوت ..! وصارَ النَّاس كالموظفين في بيوتِهِم .. يقوم كلٌ بحاجاتٍ ضرورية فيهِ لا يَتعدَّاها .. ثمَّ يلجأ إلى صَومَعَتِهِ الخاصة مع أجهزةِ تقنية الإتصالات وشبكتها …. فهناكَ بيتُهُ .. وهناك ُأصدقاؤُه وأهلُه.. وهناك عملُه الحقيقيُّ ووظيفتُه الدائمةُ الوقت ..!! وهناكَ للأسف مُربُّوه ومُعلِّموه ..وليتَ مُعظمُهم مربُّون ومُعلمون وليس عَكسَ ذلك !! .. وهناكَ مجتمعُهُ الجديد .. وحتى طريقةُ طعامِهِ .. صارت هناكَ .. وطريقة لِباسه وهندامه كذلكَ .. وطريقة نُطقهِ .. هناكَ صارت وكلامِه
=======
هل نحنُ ضدَّ التِّقنياتِ الحديثة والتطور إذْ نقول هذا ..؟ بالطَّبع لا .. هل نحنُ ضد الحضارة وآلياتها في الابتكار والابداع..؟ بالطَّبع لا .. بل مع كُلِّ التَّقدُّم والتطورات العلمية فيما يَخدِمُ الإنسان َوإنسانيَّته ويرتقي بها ..
ولكنَّنا نعم .. نحنُ عكسَ التَّيار الهادر بسوء استعمال التطور وتقنيَّاته ..! و ضِدَّ استخدام نِتاج التَّطَوُّر التقني بما يُلغي الإنسانَ وإنسانيتَه ويُسيء إلى فِطرته السَّليمةِ وثقافته الأصيلة .. ويُهينُ كرامتِهِ ويُضيِّع قِيَمَهُ ..
والسلام على مُجتمع كانَ .. ذات يوم يُسمَّى مجتمعاً
حسام الدين منصور
14/11/2022